انسحابٌ بلا رعود: قراءة في صمت الدعم السريع
بقلم: سليمان مجوك
في فجرٍ بلا قرقعة بنادق، انسحبت قوات الدعم السريع من الخرطوم كما ينسحب الظل عند منتصف النهار. لم تسمع المدينة دويّ انفجارات، ولا صليلَ ذخائر، بل شاهدت فقط غبارَ القوافل العسكرية وهي تبتلع نفسها في الأفق. هذا الانسحاب الذي بدا كأنه "مَوطِنُ أسئلةٍ بلا أجوبة"، يطرح أكثر مما يُجيب.
المشهد الأول: الجدران التي تتذكر
الخرطوم، المدينة العجوز التي شهدت كل أنواع الزحف والانسحاب منذ أيام المهدية، لم تعرف انسحاباً بهذه السلسلة قط. حتى الحجارة في أحياء الكلاكلة والعمارات بدت مستغربةً هذا الصمت. الجنود يتراجعون كما تتراجع أمواج النيل في الصيف، بلا ضجيج، وكأنهم يؤدون رقصةً مدروسةً على إيقاع غير مسموع.
قراءة في الفراغ
في المقاهي التي اعتادت مناقشة أخبار المعارك، جلس الرجال يحكون بأصابعهم على طاولات الشاي علامات استفهام:
"أهو نصرٌ بلا منتصر؟"
"أم هدنةٌ بلا مبادرين؟"
"أم أن الحرب صارت تُدار بخرائط أخرى؟"
حتى نساء الحارات اللواتي تعوّدن تفسير أصوات القذائف من بُعد، وجدن أنفسهنّ عاجزات عن تفسير هذا الصمت.
السياق الخفي
مصادر مقرّبة من الطرفين تحدثت عن "اتفاقيات غير مكتوبة" كتلك التي تُعقد بين خصمين ذكيين يعرفان أن الحرب "لعبةٌ لا يربحها إلا الموت". ربما أدرك الجميع أن الخرطوم - كعروس النيل - لا تُقسّم بالسكاكين، أو أن المعادلة الدولية باتت تفرض حلولاً لا تشبه تلك التي اعتادها السودان في ثمانينياته الدامية.
السيناريوهات المحتملة
انسحاب تكتيكي: كالأسد الذي يتراجع ليعود من باب آخر
صفقة سياسية: حيث تُوزّع الكعكة قبل أن تُخبز
ضغوط إقليمية: كتلك الرياح التي تأتي من خليج بعيد فتُغير اتجاه المعركة
الخاتمة: المدينة التي تنتظر
الخرطوم الآن كتاجرٍ عتيق يجلس على دكّانه ينتظر زبائن لا يعرفهم. الشوارع التي كانت تعجّ بالدبابات صارت تلمع تحت شمس مارس كما لو أنها تغسل ذاكرتها. لكن أهل المدينة، الذين تعلموا من تاريخهم الطويل أن "الحرب لا تذهب إلا لتأتي"، يترقبون. يعرفون أن هذا الهدوء قد يكون مجرد نفسٍ عميق تأخذه المعركة قبل معاودة القفز.
"في السودان، حتى السلام يلبس ثوب الغموض.. فكيف بالحرب؟"

0 Comments